تناول الجزء الأول من المقال سؤال الشك في معنى (ال) التعريف المقترنة بالحديث عن نكبة 1948، طارحاً استبدالها بالترقيم، ومجادلاً بأن نكبة 1977 - 1979، أو ما يمكن تسميتها نكبة "كامب ديفيد"، لا تقل في حجم تأثيرها على الحقوق الفلسطينية التاريخية ومسار القضية السياسي والاستراتيجي عن النكبة الأولى. وفي الجزء الثاني، أخصُّ فلسطينيّي سيناء بنكبة ثالثة في 2007، ونكبة رابعة في 2013. وعلى الرغم من إدراكي أن استخدام تعبير "نكبة" في هذا السياق قد يوجه له الانتقاد باستهلاكه محلياً في أوضاعٍ وقضايا تخص العدد والنسبة الأصغر من اللاجئين الفلسطينيين في دول الطوق، إلا أني أحاول اختبار دلالته الاصطلاحية في توصيف تجلياته المحلية في سيناء، كمؤشر على التدهور الكبير في القضية الفلسطينية ومستقبل الحقوق العربية في فلسطين التاريخية. لذا، فإن المقال في جـُـزئَــيْه قائم على اعتبار النكبة اصطلاحاً يقصد به "إنشاء أمر واقع جديد، دون وجه حق، تُغتصب فيه حقوقٌ تاريخيةٌ فلسطينيةٌ، ثقافياً ومادياً، وتُعزز فيه الهيمنة الصهيونية على الأرض الفلسطينية العربية، ويزداد فيه الضعف والتفرق العربي زيادةً تؤخر استرداد الحقوق المسلوبة"، أو قريباً من هذا التعريف المقترح.
في المقال السابق، استعرضت جانباً من أحوال اللاجئين الفلسطينيين في مصر عموماً، وفي سيناء خصوصاً، بين النكبة الأم ونكبة كامب ديفيد (1977 – 1979) وما تلاها، تلك النكبة الثانية التي لا تقل في مركزية تأثيرها في مسار القضية الفلسطينية عن نكبة 1948. كان من آثار النكبة الثانية أن تتوقف – رسمياً – أعمال الاستخبارات المعادية بين طرفي المعاهدة. ومع وجود أجهزة أمنية متضخمة كانت تهتم لأدق التفاصيل في الأراضي المصرية والفلسطينية المحتلة، نتج عن ذلك التحول توجيه تلك الطاقات الهائلة للصفوف الداخلية، فصار المجتمع المحلي في سيناء، بمصريّيه وفلسطينيّيه، الموضوع الرئيسي – بـــ (ال) التعريف – لأنشطة الاستخبارات والتقارير الأمنية وآليات الإخضاع والسيطرة التي تم تطبيقها سلفاً على "الــــ" أعداء، قبل أن تفقد "ال" التعريف معناها.
قد يرى بعض المحللين في اتفاقية أوسلو 1993 نكبةً ثالثة، لما فيها من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الاحتلال. لكن اتفاقية أوسلو، رغم شَقّها الطولي في الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، قد ألهبت المقاومة وأحيت الإبداع الأدبي والفني الذي أسهم بشكل أو بآخر في توريث القضية لأجيال من الناشئين. تزامنت اتفاقية أوسلو مع انسداد أفق المعارضة الداخلية في بلدان عربية عديدة، وشهد العقد التالي لها، حتى غزو العراق 2003، ترحاباً من الأنظمة العربية، وعلى رأسها مصر، باحتواء الغضب الشعبي وتنفيسه في قضايا لا تتعلق بتداول السلطة محلياً والحريات والديمقراطية.
تحسنت فرص السماح بمعارضة سياسية في الشؤون السياسية المحلية بعد ضغط من الولايات المتحدة الأمريكية على الأنظمة العربية، تبعاً للتوصيات والتقارير التي ربطت بين ظهور حركات العنف المسلح الدولي بقيادة إسلاميين هاربين من تلك الدول (أسامة بن لادن من السعودية وأيمن الظواهري من مصر على سبيل المثال) وبين الاستبداد والقمع. ظهرت الحركة الوطنية من أجل التغيير –كفاية في مصر في 2004، وفي العام التالي أقيمت أول "مسرحية" انتخابات تعددية في مصر، ثم توالت الاحتجاجات العمالية وحركة استقلال القضاء والإضرابات في السنوات التالية الممهدة للثورة الشعبية الواسعة في 2011. كان من مزايا حراك ما قبل الثورة في مصر التركيز على الشأن الداخلي، ومن آثاره الجانبية تهميش القضية الفلسطينية في الخطاب والفاعليات، رغم أن اللبنة الأولى لحركة كفاية كانت قد التقت سلفاً فيما عرف باسم الجبهة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية (2000 / 2001).
بالتوازي مع الحراك السياسي في المشهد القاهري المركزي، أتت نتيجة الانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006 مفاجئة من حيث حجم فوز حماس، بعد أقل من عام على فوز الإخوان المسلمين بأكبر نسبة تمثيل في البرلمان المصري في تاريخهم قبل ثورة يناير (88 عضواً مثّلوا 20% تقريباً من الأعضاء). استشعر مثلث (القاهرة – تل أبيب – رام الله) الخطر، وبدأ مسلسل الانشقاق العرضي / الجهوي بين غزة والضفة الغربية.
النكبة الثالثة: اختزال فلسطين في غزة
في 2007، وبعد سيطرة حماس على غزة بالكامل، اشتد الحصار على أهل القطاع فاجتاحوا الحدود مع رفح – للمرة الثانية بعد 2005 – وأغرقوا شوارع شمال سيناء باحثين عن المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، الأساسي منها والكماليّ، ممتدين على طول 40 كيلومتر حتى مدينة العريش. اشتد سعار الإعلام المصري تحريضاً ضد الفلسطينيين في الوقت الذي رتّب مدير المخابرات العامة الأسبق، ونائب رئيس الجمهورية لاحقاً، عمر سليمان، إيجاد بديل غير رسمي لانفجار الأزمة الإنسانية ووقوع مجاعة أو أوبئة في قطاع غزة. كانت أنفاق التهريب هي البديل الذي يستطيع النظام المصري ملاعبة حكومة حماس به تضييقاً وتسهيلاً. انتفع الضباط والجنود في أجهزة الشرطة وبعض أجهزة الجيش، وتمت السيطرة المعلوماتية على حجم تسليح المقاومة وأنواعه. أما الشعب المصري في وادي النيل فلم يعد يسمع شيئاً عن فلسطين، حتى من حلفاء القاهرة في رام الله، فالحديث كله عن غزة. ولأن اللاجئين الفلسطينيين في وادي النيل ذائبون في آلاف الأضعاف من السكان، ولأنهم محرم عليهم التكتل سكنياً، ولأن لهجتهم قد ذابت كضرورة للاندماج / الذوبان المجحف، فإن فلسطينياً قادماً من شرق قناة السويس لا بد أن يكون متسللاً من أنفاق التهريب بين شطريْ رفح!
أنجب المنكوبون الأوائل الجيل الأول من فلسطينيي سيناء عام 1949، وهو عام ميلاد الأجداد – حاليًا – لجيل ثالث من الأحفاد المولودين في سيناء، ولا يربطهم بفلسطين، بعد صلات القرابة والأرحام، سوى المرويّات وبعض الأطعمة وبقايا من أثواب فلسطينية قد ترتديها النساء إحياءً للفلكلور، بعد أن طمس التقادم الفروق الدقيقة بين أثواب القضاءات الفلسطينية المختلفة. صحيح أن الرابطة المعنوية لدى فلسطينيّي سيناء بوطنهم التاريخي أقوى، وصحيح أن تمسكهم بلهجتهم وحرصهم على تمييزها عن اللكنة العرايشية لا يزالان من سمات مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، إلا أنهم عملياً لم يعيشوا إلا في مصر. فليس مسموحاً للمسافرين منهم أن يتغيبوا عن البلاد لأكثر من ستة شهور، وإلا فالحرمان من الإقامة أسهل ما يمكن للسلطات المصرية.
في أعوام النكبة الثالثة، التي يمكن رصد بدايتها باغتيال عرفات (2004 – 2007)، وبالتوازي مع ترسّخ اختزال فلسطين في غزة، شهدت سيناء عدة تفجيرات إرهابية في منتجعات الجنوب ترتب عليها حملات أمنية شديدة القمع في شمال سيناء. لاحقاً، وفي لقاء مع قيادات المجتمع المحلي في سيناء، أعلن محافظ شمال سيناء الأسبق، اللواء مراد موافي، الذي اختير لهذا المنصب بعد عمله كمدير للمخابرات الحربية، أن الخطر على الأمن القومي المصري مصدره الأربعة عشر كيلومتر الحدودية الشمالية الشرقية (حدود مصر مع القطاع)، وليس المائة وتسعين كيلومتر في الوسط والجنوب (حدود مصر مع الأراضي المحتلة في النقب حتى إيلات). فإذا كان الفلسطيني في سيناء قد حرم من مزايا مساواته مع المواطنين المصريين بعد اغتيال يوسف السباعي وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978 ثم معاهدة السلام 1979، وإذا كان المواطن المصري في سيناء قد تحول إلى مشتبه به بسبب جهة إقامته أو محل ميلاده وذاق لذلك صنوف العذاب أشكالاً وألواناً، فهل يمكن أن نتخيل المآل الذي صارت إليه أحوال فلسطينيّي سيناء؟ وهل نبالغ إذا وصفناها بنكبة ثالثة متزامنة مع تراجع مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب النضالي والحقوقي واختزال حقوق فلسطين التاريخية في المآسي الإنسانية بقطاع غزة؟!
ليس من المبالغة أن نعتبر استبدال فلسطين بكلمة غزة نوعاً من الانتصار الصهيوني الاستراتيجي في حرب الوعي والذاكرة والخطاب. تاريخ الصراع العربي الصهيوني حافل بشواهد كثيرة تؤكد اهتمام الجانب الصهيوني بالحرب الفكرية والثقافية، وإنفاقه الكثير من الجهد والمال على الاستثمار في أدوات هذا الجانب من الصراع. وعلى الرغم من أن ذلك التحليل لا يقوم على دليل دامغ بأن التخطيط الصهيوني عمد إلى اختزال فلسطين في غزة على مستوى الخطاب الإعلامي والحقوقي والسياسي، إلا أن مآلات الأمور قد أبرزت هذه النتيجة التي وصلنا إليها. قد لا تكون النكبة انتصاراً من العدو بقدر كونها هزيمة داخلية وانسحاباً، إلا أن المحصلة النهائية تظل واحدة: وقعت النكبة الثالثة، وتم اختزال فلسطين في غزة.
غفلة من زمن النكبات (2009 – 2011)
لم تكن النكبات قدراً مقدوراً، بل هي سنن الحياة والصراعات. ولم تكن الدولة الصهيونية يوماً صادقة في دعايتها بأنها ذاتُ الجيش الذي لا يقهر، أو أنها صاحبة اليد الأعلى في أي صراع إقليمي تدخله. ومن حيث أرادت أن تحرز تقدماً استراتيجياً في حرب 2008 – 2009، معلنة بدء عملياتها من قلب القاهرة، بعد أن اتكأت وزيرة الخارجية الإسرئيلية تسيبي ليفني على يد نظيرها المصري أحمد أبو الغيط في المؤتمر الصحفي الشهير، انقلب السحر على الساحر، وصمدت غزة، وكسبت القضية الفلسطينية أبعاداً جديدة في المناصرة.
في سيناء، لجأ ضباط الأمن الوقائي الهاربين من غزة في 2007 بتنسيق مع البحرية الإسرائيلية في زورق إلى ميناء العريش، حيث استقبلهم نظام مبارك ووفر لهم الحماية. استأجروا العديد من الشاليهات القريبة من البحر، وكثرت مشكلاتهم وسلوكياتهم المنبوذة في مجتمع العريش المحافظ، حتى بدأ التنميط السلبي لشخصية الفلسطيني يجد تربة خصبة في آخر مكان قد يصاب بهذه اللوثة، مجتمع شمال سيناء، الشقيق التاريخي للمجتمع الفلسطيني. لكن الحرب العدوانية على غزة قد أزالت هذا التهديد وأعادت الأمور إلى سابق عهدها، بمزيد من التعاطف مع المصابين القادمين عبر معبر رفح لتلقي العلاج في مستشفى العريش وغيره.
تغيرت الأحول السياسية كثيراً، وقامت ثورة شعبية سلمية في أنحاء مصر ممتدة إلى العريش، وانفردت المنطقة الحدودية الشمالية من سيناء بثورتها المسلحة أخذاً بثأرها القديم من الشرطة المصرية واعتدائها على حرمات البيوت وأجساد النساء تعذيباً وتنكيلاً. وعلى الرغم من اختفاء الشعارات القومية والأممية والإسلامية في الموجة الثورية الأولى، إلا أن الدعوة إلى الزحف إلى فلسطين في ذكرى النكبة لم يفصلها عن خلع مبارك سوى بضعة أسابيع. كنت سعيد الحظ بمرافقة صديقين من بدو الشيخ زويد، حيث نجحنا في الوصول إلى معبر رفح يوم 15 مايو/أيار 2011 عبر العديد من الطرق الالتفافية، تاركين خلفنا المئات من الشباب في العريش وعلى الطريق الدولي الواصل بين العريش ورفح، حيث أوقفتهم قوات الجيش، فضلاً عن آلاف لم يستطيعوا عبور قناة السويس بسبب التشديدات الأمنية. وصلت أعداد قليلة، حاملة الرسالة الكبيرة، فكانت بمثابة الإشارة على الإفاقة من زمن النكبات.
بعدها بشهور، أرادت إسرائيل اختبار حجم التغير الذي أحدثته الثورة بخلع مبارك ووجود المجلس الأعلى للقوات المسلحة على رأس السلطة الانتقالية، فقتلت ضابطاً وعدداً من الجنود المصريين على الشريط الحدودي قريباً من طابا في جنوب سيناء. اشتعلت القاهرة بالمظاهرات، وزحفت الجموع نحو مقر السفارة الإسرائيلية في الجيزة، وتسلق أحدهم العمارة من الخارج حتى بلغ سطح الطابق الحادي والعشرين فانتزع العلم الإسرائيلي وسط الهتافات الحماسية. كانت قوات الأمن المصرية قد حاولت تأمين السفارة بجدار خرساني سميك، إلا أن المتظاهرين قد أسقطوه بأيديهم وأدوات النجارة المنزلية البسيطة. وبالتزامن تقريباً، اندلعت في تل أبيب الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية مطالبة بهتاف الربيع العربي الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولكن باللغة العبرية، وإن كان على الإيقاع الموسيقي ذاته.
وقتئذٍ، وقعت النكبة الصهيونية الأولى، حين استبطن المجتمع الإسرائيلي نموذج عدوه القومي التقليدي، الذي طالما استعلى عليه قبل الثورات، بل استلهم منه الخطاب وأدوات الصراع ضد السلطة التي قدمت نفسها ممثلة للديمقراطية الوحيدة في المنطقة. إلا أن تعثر المسار الثوري، واستشعار الخطر على دولة الاحتلال والأنظمة الخليجية، فضلاً عن تطورات / تدهورات المشهد السوري المؤسفة، قد تضافرت كلها على دعم سيناريو الثورة المضادة، وعدنا إلى زمن النكبات.
النكبة الرابعة: انقلاب يوليو / تموز 2013
لم تقدم سلطة الإخوان المسلمين للاجئين الفلسطينيين في مصر عموماً، أو في سيناء خصوصاً، أية ميزة، ولم تنتزع لهم أي حق. فحين تواصل فلسطينيو سيناء مع حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، عقب الفوز في انتخابات مجلس الشعب في 2012، اعتذر منهم ممثلو الحزب في شمال سيناء وطالبوهم بتأجيل مناقشة حقوقهم خشية التحريض الإعلامي ضدهم بتهمة "دعم الفلسطينيين"[1]. وبسؤالهم عن التغير الذي طاولهم في فترة حكم مرسي، أجاب أحد رموزهم بتهكّم: "تم تغيير هيئة وثيقة السفر من الوثيقة الضخمة القديمة إلى وثيقة إلكترونية ذات حجم أصغر"، ويضيف: "وقد تم زيادة رسوم استخراجها احتفالاً بهذا التغيير اليتيم"[2]. خلال سنة حكم مرسي، قابل بعض ممثلي اللاجئين الفلسطينيين في مصر من فلسطينيي سيناء عدداً من المسؤولين الرسميين في وزارتي الداخلية والعدل، حيث فوجئوا بجهل قيادات الصف الأول والثاني من السلطة التنفيذية بأحوالهم وأوضاعهم والقوانين المنظمة لها. ويكاد يكون التقدم النسبي الوحيد الذي تحقق هو السماح لكبار السن من فلسطينيي سيناء بالدخول إلى قطاع غزة دون تصريح مسبق يُستخرج من القاهرة، ولكن العمل بهذا التخفيف لم يدم طويلاً حيث عاجله انقلاب 3 يوليو/تموز فقضى عليه. وبذلك تبددت كل الآمال التي لاحت في الأفق لفلسطينيي سيناء، وغيرهم من اللاجئين الفلسطينيين في عموم مصر عقب ثورة يناير، وعاد الترقب والحذر ليكونا سيّدا المشهد، وتؤجل كل المطالبات والحقوق في التعليم والصحة وتوفيق الأوضاع القانونية للعمل والإقامة وتيسير إجراءات الزواج والطلاق.
وصل الحال بفلسطينيي سيناء بعد انقلاب 3 يوليو/تموز درجة الترحم على عهد قمع أمن الدولة. فالملاحقة الأمنية المصحوبة بسعار التحريض الدعائي الجماهيري ضد الفلسطينيين والسوريين جعلت منهم صيداً وهدفاً متحركاً لأية قوة أمنية أو عسكرية، أو حتى المبادرين من فئة "المواطنين الشرفاء". أمست التهمة "فلسطينيّاً"، وأصبح الفلسطيني مداناً حتى لو ثبتت براءته. وأُقحم الفلسطينيون في صور المعتقلين عشوائياً التي يتم نشرها باعتبار أنها توثيق لانتصار أمني بالقبض على مطلوبين خطرين ومسلحين إرهابيين. وبتتبع بعض حالات الفلسطينيين الذين يتم تصويرهم باعتبارهم عناصر مسلحة ومدربة قادمة من غزة لمشاركة الجماعات المسلحة في سيناء في هجماتها ضد القوات النظامية، يتبين أن أصحاب الصور أو أسماء المتهمين الفلسطينيين من مواليد العريش ولم يزرورا غزة في حياتهم قط، وأنهم قد تم توقيفهم اشتباهاً في أية نقطة تفتيش بتهمة كونهم فلسطينيين، حيث يصيح الجندي حين يمسك وثيقة سفر اللاجئين الفلسطينيين منادياً على قائده "فلسطيني يا باشا".
تعيش مصر كلها ظروفاً قمعية بالغة السوء عقب انقلاب يوليو 2013. صحيحٌ أن مجازر تحالف السلطة العسكرية/الأمنية الحاكم في القاهرة قد تجاوزت في بشاعتها وعدد ضحاياها كافة الانتهاكات والجرائم المرتكبة في سيناء منذ شهر يونيو/حزيران وحتى العمليات العسكرية الموسعة التي بدأت يوم 7 سبتمبر/أيلول 2013. لكن الفارق بين مجازر فض اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، وما سبقها وما تلاها، وبين جرائم السلطة في سيناء، هو أن سيناء تحت حصار دائم وتهديد مستمر لكل سكانها، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون، في حين اقتصرت مجازر وجرائم السلطة في وادي النيل على أماكن محدودة وفي توقيتات محدودة واستهدفت فئة أو طائفة سياسية محددة. أما سيناء فهي بالنسبة للعسكر أرض عمليات، قد يقدم القائد العام ووزير الدفاع اعتذاراً عن الخسائر والأضرار التي لحقت بالأراضي والمباني، لكن تجاهل أرواح الضحايا الأبرياء من الاعتذار عن إسقاطهم على سبيل الخطأ يوحي بأنهم لا يرون البشر على هذه الخريطة سوى أرقام عديمة القيمة. وحين أمعنت سلطة الانقلاب في استرضاء إسرائيل كي تضمن تعاوناً للضغط على واشنطن كيلا يعتبره الكونجرس انقلاباً عسكرياً بصفة رسمية، وتضمن القاهرة وتل أبيب استمرار المساعدات العسكرية وحماية معاهدة السلام، لم تكترث القوات العسكرية لآلاف الأشجار التي تم اقتلاعها وعشرات المنازل التي تم تدميرها بالمتفجرات أو الجرافات من أجل تأمين زمام محازٍ للحدود، سواء بامتداد الأربعة عشر كيلومتر مع رفح الفلسطينية، أم حتى بامتداد الحدود مع الأرض المحتلة.
لم تكتف السلطة بحالة التضييق الأمني على سيناء وسكانها منذ 30 يونيو/حزيران، حيث أغلق جسر السلام الرابط بين ضفتي قناة السويس وتم تطبيق حظر التجوال منذ الرابعة عصراً خلافاً لسائر الجمهورية، بل أمعنت في استهداف الفلسطينيين بوقف المعونات التي كان يستفيد منها أكثر من مائتي أسرة من فلسطينيي سيناء وحدهم، حيث أوقفت وزارة التضامن الاجتماعي صرف المعاشات للأيتام والأرامل وغير المقتدرين، بدعوى خفض النفقات الحكومية. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ترتب عليه حرمان المنتفعين من هذه المعونات من الإعفاء من رسوم تجديد الإقامة، وهو ما يعني عبئاً إضافياً ثقيلاً على عاتق الأسر الفلسطينية المعروفة بكبر حجمها.
يشهد فلسطينيو سيناء بعد سنة كبيسة من الانقلاب العسكري أسوأ فترة زمنية مروا بها في تاريخ إقامتهم بشبه الجزيرة، فحتى أيام الاحتلال استفادوا فيها من تجوالهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة وزيارة أقاربهم، أما الآن فمن يريد أن يتخفف من الأعباء الأمنية بالسفر خارج البلاد مثلاً، فعليه أن يعود دون أن يمر على غيابه أكثر من ستة أشهر، ولو بيوم واحد، حتى لا يفقد إقامته في مصر إلى الأبد. وهو ما دفع الجيل الأول من مواليد فلسطينيي سيناء في العريش إلى التفكير جدياً في الاستجابة لدعوات أقاربهم الحاصلين على جنسيات أوروبية وآسيوية وأمريكية لاتينية بالهجرة وترك مصر، أو على الأقل التفكير في الانتقال النهائي إلى قطاع غزة، في الوقت الذي بلغوا فيه من العمر أن صاروا جدوداً وآن لهم أن يتقاعدوا مستريحين. أما شباب الفلسطينيين فلن يكونوا أحرص على البقاء في مصر من كثير من المصريين الذين لا يتوانون عن اللحاق بأية فرصة سفر أو هجرة، سواء بسبب الظروف المعيشية القاهرة وتبدد الأمل في التغيير السريع عقب الثورة، أم تحديداً بسبب القمع عقب الانقلاب. وصار بديل السفر بالنسبة للفلسطيني هو الحصول على الجنسية المصرية اتقاءً للظلم المضاعف الواقع على الفلسطينيين، ورضاءً بالظلم الاعتيادي الذي صار من نصيب المواطن المصري في سيناء، وهو بدوره أضعاف الظلم الذي يتعرض له المصري في وادي النيل.
دون الوقوع في فخ الإغراق في المعاناة المحليّة، أتى انقلاب يوليو / تموز 2013 بتحوّل كبير في وضع القضية الفلسطينية جدير بتصنيفه نكبةً رابعة. فالتنسيق الأمني بين الجيشين المصري والإسرائيلي صار علنياً على أعلى المستويات، وتصريحات المتحدث باسم البنتاجون الأمريكي عن المصلحة الأمنية الثلاثة المشتركة (الأمريكية – الإسرائيلية – المصرية) فيما يخص السياسات الأمنية في سيناء أضحت مطابقةً لما يصرّح به قيادات الجيش الإسرائيلي في الصحافة العبرية. أما الأزمة الفلسطينية فقد تجاوزت مرحلة الحصار المصري على قطاع غزة، وبلغ الأمر درجة إرسال الجيش الإسرائيلي تهديده بإبادة ثلث غزة عبر المخابرات المصرية، بالتوازي مع هياج تحريضي ضد الفلسطينيين والمقاومة في وسائل الإعلام المصرية، وانتشار صفحة المتحدث العسكري الإسرائيلي الناطق بالعربية، أفيخاي أدرعي، كمصدر معلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
قد يكون المجتمع السيناوي أكثر تضامناً مع القضية الفلسطينية من بقية المجتمع المصري في وادي لأسباب متعددة؛ كتقاسم الخبرة مع الاحتلال الإسرائيلي، والجيرة القريبة، والمصاهرة مع اللاجئين الفلسطينيين، وامتدادات العائلات والقبائل المشطورة على الجانبين، وغيرها. لكنّ انكشاف الظهير الشعبي والرسمي خارج حدود شبه الجزيرة، سواءً بعزوف قطاعات متنامية من المجتمع أم بسبب قمع السلطة، أضاف إلى وضع القضية المعقد بعداً جديداً يستحق وصف النكبة. فإذا كانت النكبة الثالثة حملت تخلّي مصر عن القضية الفلسطينية بشكل غير مسبوق، فإن النكبة الرابعة قد أتت برئيس جمهورية يقول عن "كامب ديفيد" إنها في وجدان كل مصري، ويستجدي من المحتل "حاجة" – أي حاجة – للفلسطينيين، وتجاهر في عهده نائبة رئيس تحرير أكبر جريدة حكومية مصرية – جريدة الأهرام – بشكر إسرائيل على قصفها لما أسمتها "حماس الإرهابية" في حرب 2014. أما استحكام الحصار، أو تخفيفه بمعونات غذائية وطبية يقدمها الجيش ممهوراً بتوقيع الشعب المصري، فقد أوفى بالتعليق عليه تهكّم أحدهم على موقع "فايسبوك" بأن الخطوة القادمة ستكون دعماً شعبياً بالسلاح ممهوراً بتوقيع الجيش.
[2] المرجع السابق.